محاولة للتعمق في البتكوين (1) - من هو ساتوشي ناكاموتو؟
البتكوين ، البلوكتشين، والعملات والأصول الرقمية كلها تقنيات جديدة تشكل اقتصادا جديد لم يكن موجودة قبل حوالي عقد من الزمان. ومن الطبيعي أن كل تقنية جديدة تثير في البداية تحفظا من جهة وتفاؤلا من جهة أخرى. نرى هذا مثلا في اختراع الإنترنت ، ليس من الضروري أن نذكر أن المتحفظين وقتها ذكروا أن الإنترنت سيأخذ حجمه الطبيعي ولكن يكون أكثر تأثيرا على الاقتصاد من جهاز الفاكس (صاحب هذا التوقع هو الاقتصادي الأمريكي بول كريغمان الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد!).
ولكن الأهم ذكره أنه حتى أكثر المتفائلين لم يتوقعوا أن يتطور الانترنت إلى الشكل الحالي ويتيح الحجم الهائل من التجارة الالكترونية والشبكات الاجتماعية والعمل عن بعد الخ من الامور التي أتاحها الإنترنت. على النقيض فإن بعض التقنيات التي أثارت تفاؤلا وحماسا كبيرا لم تزل لم تثبت حتى أقل قدر من ما توقع لها أن تكون (مثلا تقنية الواقع المعزز بالرغم من التفاءل الكبير حولها فما يزال استخدامها محدودا). ومن المهم أيضا أن نذكر أن بعض التقنيات تحتاج إلى أخذ وقت كافي ليتبين درجة تأثيرها وقوتها وعلينا أن لا نستعجل في الحكم عليها ، أذكر على سبيل المثال : القيادة الذاتية، الحوسبة الكمية والواقع المعزز.
لا اذكر الكلام اعلاه للتشمت بالمتحفظين ولا المتفائلين ، ولكن لأقول لكل من المتحفظين والمتفائلين اليوم بالبتكوين والعملات الرقمية : شيئا من التواضع، وكثيرا من الشك في مواقفكم ، فهذا العالم يفاجئنا بطرق لا نتصورها. وعلينا أن نعطي المجال لافتراض خطأ تصوراتنا وتوقعاتنا، ولعل أخذ جولة في أسوأ التوقعات للقرن الحالي، ومعرفة من أصدر هذه التوقعات، من أشخاص كان لهم وزنهم ومكانتهم ، يعلمنا أن نتواضع ولا نتصور معرفتنا ما وراء ستار المستقبل.
البتكوين في جوهرها تقنية حوسبية ، لها جوانب تتعلق بالتشفير والحوسبة الموزعة ، فهي في عمق تخصص علوم الحاسب ، ولذلك لا يجب أن نفترض أننا نستطيع فهمها بالكامل من خلال فيديو قصير في اليوتيوب او خبر في جريدة أو مقال في موقع. بل نحن بحاجة الى مزيد من التعمق والنظر. ولذلك أرى نظريات وأفكار حول البتكوين تنبع من أساسها من عدم الفهم الكامل لحقيقة البتكوين وبمجرد التعمق والفهم تزول هذه النظريات.
هذا المقال هو سلسلة من مقالات ، ليس هدفها شرح البتكوين ولكنه نقاش لأكثر الأسئلة والنقاشات المتداولة حول البيتكوين ورأيي الشخصي حولها
إذا أخذنا تقنية مثل الإنترنت، فهي في جوهرها تعني شبكة من الحواسب والخوادم متصلة ببعضها. لا يعطي هذا التعريف لقارءه في التسعينات مثلا تصورا عن ما يمكن للإنترنت أن يصبح. لو سألنا مزارعا في أفريقيا أو عاملا في الصين عن تعريف الإنترنت، سيتبادر إلى ذهن كل شخص معنى الإنترنت بالنسبة له. فهو وسيلة العمل عند شخص، وهو قناة للتجارة والبيع والشراء عند شخص آخر، وهو طريقة للتواصل مع الأحباب عند ثالث .. الخلاصة هي أن التعريف التقني البحت قد لا يعطي الصورة الكاملة لماهية هذه التكنلوجيا أو لما يمكن أن تصل إليه.
سآخذ تعريفا موجزا للبتكوين وسأبني عليه بقية المقال ، حيث كما ذكرت سابقا أني لا أنوي التوسع في تعريف البتكوين نفسه، البتكوين حسب تعريف BITCOIN.ORG :
يستخدم البتكوين تقنية النظير-إلى-النظير. لا يحتاج البتكوين إلى سلطة مركزية أو بنوك. تدار المعاملات (التحويلات) وإصدار العملة (تعدين العملة) بشكل جماعي عن طريق شبكة البتكوين. البتكوين مفتوح المصدر، تصميمه (تقنياته) متوفرة للعموم، لا يتحكم أحد بالبتكوين، ويستطيع أي شخص أن يكون جزءا من البتكوين.
حسب تعريف ويكي:
البتكوين عملة مشفرة اخترعت في 2008، بواسطة شخص مجهول أو مجموعة تستخدم اسم ساتوشي ناكاموتو. بدأت العملة عام 2009 عندما تم نشر الكود مفتوح المصدر. البتكوين عملة رقمية لا مركزية، لا يديرها بنك مركزي أو جهة إدارية. يمكن إرسال البتكوين من مستخدم إلى مستخدم بواسطة شبكة النظير-إلى-النظير، بدون الحاجة إلى جهات وسيطة. يتم التحقق من التحويلات بواسطة الأجهزة المشاركة في الشبكة (Nodes) عن طريق علم التشفير ويتم تسجيل المعاملات في قاعدة بيانات موزعة وعامة يطلق عليها بلوك تشين.
من هو ساتوشي ناكاموتو؟
من أبرز النقاشات التي كنت أتابعها أو اسمعها في السابق هو كيفية الثقة في عملة صاحبها مجهول؟ بالنسبة لمن لم يتبحر في البرمجة وعلوم الحاسب، يظل هذا الانتقاد منطقيا بدرجة عالية، ولذلك لابد من التعمق فيه. وهنا نسأل ثلاثة أسئلة
الأول : هل معرفتنا للشخص تؤثر على تقييمنا لجودة العمل؟
تخيل أنك أمام لوحة فنية بارعة الجمال؟ أو أنك أمام تحفة معمارية لا شبيه لها؟ تخيل أنك أمام الأهرامات ولكنك لا تعرف الفراعنة، هل سيبهرك ضخامتها وتميزها؟ أم أنك ستطلب مقابلة المهندس قبل أن تحكم على الجودة؟ .. حينما نتحدث عن البتكوين ك كود مفتوح المصدر فإننا كذلك نتكلم عن عمل تقني يستطيع المبرمجون وعلماء الحاسب تصفحه وتأمله ، ولا يضرهم عدم معرفة صاحب العمل شيئا، نعم هم يحكمون على جودة الكود، وعلى تصميمه. وقد أبهرهم هذا العمل في طريقة حله لمشكلة الصرف المزدوج (double spending) و byzantine generals problem مثلا ، وطريقة وصول أجهزة وأشخاص لا يعرفون شيئا عن بعض إلى توافق كامل حول المعاملات والتحويلات دون أن يكون بينهم وسيط ودون أن يحتاج أي منهم لأن يثق في الآخر. (تنويه: المقال لا يحوي شرحا تقنيا لذلك يرجى الرجوع إلى المصادر التي تتناول هذه المواضيع بالتفصيل).
الثاني: هل أخفى ساتوشي ناكوموتو، بابا خلفيا، وسلاحا أخيرا؟
من الاعتراضات على مجهولية ساتوشي ناكموتو كذلك، أنه قد يكون أخفى عيبا لم يبينه لأحد يستطيع في خلال ظرف معين استغلالها. والجواب على هذا من جانبين :
الأول: صحيح أن ساتوشي ناكموتو قد وضع أول تطبيق عملي لبروتوكول (طريقة عمل البتكوين) ووضعه بشكل مفتوح، بحيث يستطيع من يريد أن يتصفح الكود أو أن يقترح تعديلا عليه، واستمر ناكوموتو على هذا الحال لما يقارب السنتين، يحسن من الكود ويتفاعل مع الناس ويدرج تعديلاتهم ضمن الكود. ومن ثم اختفى ساتوشي وبعدها وعلى مدار عشرة سنين، يدار كود البتكوين بشكل مفتوح ، من مبرمجين مختلفين، يستطيع أي شخص اقتراح تعديل أو تحسين على الكود مثلا.
وبذلك نخلص إلى أن ساتوشي ناكموتو لا تحكم له على الكود اليوم أبدا، وكذلك فقد تطور الكود كثيرا من اللحظة التي اختفى فيها ساتوشي، فلذلك اعتقاد أن ساتوشي ناكاموتو يستطيع استغلال باب خلفي في النظام كاعتقاد أن صاحب اختراع أول شريحة حاسوبية يستطيع التحكم بكل الكمبيوترات لأنه المخترع الأول لها.
الثاني: وهي نقطة تقنية ولكني سأحاول تبسيطها، بالإمكان اعتبار الكود المصدري الذي وضعه ساتوشي ناكاموتو هو أحد ال Client (واجهة استخدام للبروتوكول) التي تتيح المشاركة في شبكة البتكوين. و بإمكاننا اعتبار البتكوين مجموعة من المعايير والبروتوكولات بحيث يمكن لأي Client (واجهة استخدام بديلة) المشاركة في شبكة البتكوين ما دام يطبق معايير وبروتوكولات البتكوين. أقرب مثال لهذا هو متصفح شبكة الويب. حيث أن الويب هو مجموعة من المعايير والبروتوكولات المتفق عليها، وعليه فإن أي متصفح يطبق هذه المعايير يستطيع أن يتعامل مع صفحات الويب ولهذا نرى عشرات المتصفحات مثل كروم وسفاري وانترنت اكسبلولر وفايرفوكس وغيرها، حيث أنها لا تشترك في الكود ، لكنك تستطيع استخدام أي منها للوصول إلى موقع جوجل مثلا أو أي موقع آخر.
ماذا يعني هذا بالنسبة للبتكوين؟ بنفس الطريقة فإنه لا يلزم للمشارك في شبكة البتكوين أن يستخدم نفس ال Client ليكون جزءا من الشبكة ، بل يستطيع تطبيق Client الخاص به ومادام يحترم ويطبق معايير البتكوين المتفق عليها من قبل المشاركين في الشبكة، فإنه سيكون جزءا من الشبكة. وهذا الكلام ليس مجرد كلام نظري بل يوجد حاليا Clients مختلفة للبتكوين. صحيح أن الواجهة الأصلي تمت وراثته من ساتوشي ثم تطويره، ولكن تستطيع كمستخدم استخدام واجهة بديلة لم يضع ساتوشي ناكاموتو فيه حرفا واحدا. وبذلك نستطيع أن نقول أن ساتوشي ناكاموتو لا يمتلك القوة ولا السلطة لأن يفرض أي شيء اليوم على عالم البتكوين
هل يعني هذا أن تأثير ساتوشي ناكامو معدوم؟
لن يكون إنصافا أن ننفي بالمطلق وجود أي تأثير محتمل لساتوشي ناكاموتو على البيتكوين ويتلخص في رأيي تأثيره المحتمل في احتمالين :
الأول: تأثير آراءه، مواقفه أو شخصيته على البتكوين بشكل مباشر أو على سمعة البتكوين
من ناحية تقنية كما ذكرنا لا يوجد أي تحكم من ساتوشي على البتكوين كشبكة، ولكن ماذا إن عاد ساتوشي إلى الظهور، وأدلى بآراء ومواقف من شأنها تغيير طبيعة البتكوين أو حتى تأثيرها على سمعة البتكوين سلبا أو إيجابا؟ لا يمكن نفي هذا الاحتمال تماما، خصوصا وأن مجتمع البتكوين ينظر إلى المجهول ساتوشي باحترام وتقدير، ولكن يبدوا احتمالا ضئيلا في ظل التفاعل السابق الذي أظهره ساتوشي مع المجتمع التقني خلال فترة السنتين.
الثاني: تحريكه للبتكوينات التي يملكها مما يؤثر في حركة السوق
لا أحد يعرف على وجه الدقة عدد البتكوينات التي يمتلكها ساتوشي، ولكنها تقدر ب مليون بيتكوين. من شأن البيع المباشر أو تحريك هذا الرقم أن يؤثر سلبا على سعر البتكوين. لذلك أيضا يظل هذا احتمالا واردا. ولكن لماذا يود ساتوشي ضرب نفسه بنفسه، هل سيقوم بفعل يؤثر على ثروته بإغراق السوق مثلا. بالرغم من أن هذا احتمال وراد ولكنه أيضا يظل ضئيلا أن يؤثر سلبا على البتكوين